الجمعة، 7 يونيو 2019

عندما أصبحتَ بيتًا -5


 

هذه السلسلة من الكتابات مهداه لأول إنسان تبحث عنه وتهتف باسمه مناديًا عندما تدخل لبيتك 


ونحن معك كأننا في الخارج للتنزه، بل وكأننا في الداخل للخلود للراحة. لا تسألني مع من أتجاذب أطراف الحديث في حديقة البيت، فيحدث الالتباس بينك وبين أشباهك من الزهور على مبتدئة في الجمال مثلي. ولا تحدق بي كثيرًا عندما أُخذل من أحدهم فسأبقى حمقاء لا أتعلم، ففي كل مرة أنسى وأُفصّل إنسانية الآخرين على مقاسك !!

لأنك المدرسة الأولى والوسطى والأخيرة ! تخرجنا منك بامتياز مع مرتبة الشرف.  وتأثيرك الوَّضاء أشَّع من أيَّة عتمة، للحد الذي يُحدِث لنا غسيل دماغ لِمَا في الخارج ، فنكرر التجارب الخاطئة ونتعثر ونعود إليك يا مرفأ المراكب العظيمة و المنسية، ومهجع كل ربيع مر في العمر ولم يأخذ حقة من الاحتفاء .

ننتقد و نتمرد. ندَّعي أننا أبطال وسنفعل شيئًا مختلفًا، نعتقد أن العالم كان ينقصنا لنصحح الأوضاع ونمسح الرماد عن الوجوه ! ثم في النهاية، نتفاجأ أنها النهاية! ولم يكن وجودنا إلا موسم من مواسم المطر وشكل من أشكال الغيوم العشوائية التي تعبر فوق رؤوس الطلاب في الطابور الصباحي، دون حتى أن يسترعي انتباههم ذلك الترتيب المتجدد للسماوات الصغيرة.

ثم نضجر من أنفسنا ومن كل سور أحال بيننا وبين أحلامنا، والمفارقة أننا مع الوقت نصبح بكياننا أسوارًا دفاعية لحماية القلب وباقي المجموعة . فيبدأ التشافي والقبول، تهدأ العواصف ويعود الكبد لمكانه فاقدًا قطعة منه، يستأنف القلب عملة  بإصاباته البليغة، والشرايين تستمر بالوصل والعطاء رغم إنهاكها.

وأخيرًا يعلن الاطباء أنك سليم وحالتك مستقرة! تتلقى تهاني وتبريكات المحبين فتُقنع عقلك بأنك سعيد وتبتسم للجميع ابتسامة مختلفة. ابتسامة العارف والمتعلم الذي استحق مرتبة الشرف تلك. ليعم الصمت والهدوء.
تستمع مُطولًا وتقول رأيك ناقصًا. تصبح الإيماءة لغة من فرط الإنسجام أوربما من اليقين بعدم جدوى الكلام!  تعطي كثيرًا. ولم تعد ترغب بالمزيد من أي شيء ، وماسبب لك الألم في الماضي أصبح باعثًا على الضحك . لاشيء يثير حفيظتك، لا ترغب أن تعجب أحدًا ولا أحد يعجبك . تشعر أنك مُتخم وبأنك عالم فلم الحاجة للعالم ؟

ويصبح أقصى المُنى العودة للديار .. لك أنت

 فأنت الدار العتيقة المعجونة بذرات النور والسمو ، القهوة والهيل، الذوق الرفيع للحياة، يا خلاصة العذوبة وحجر النقاء، يا قواريرًا من الحب والإيثار والتضحية والاحتواء مصفوفة على طاولة زينة تسمى الفضيلة. يا "تباشير الصيف"(1) و"قلم شكر"(2) كل الفصول، يا بيت البيت، الذي على أكتافه حطت رحالنا، حالنا كحال بلابل وليدة ضلت طريق العودة، فأصبحتَ الذود والحمى، دمت  عامرًا بالخير واليُمن والمسرات.

2،1 : مصطلحان في شبة الجزيرة عامة 1:  يطلق على بداية موسم جني الرطب
                                                    2: تسمية  لقصب السكر






الجمعة، 31 مايو 2019

عندما أصبحتَ بيتًا -4


.
كم مرة سمعت " محلو اليوم ؟"  أنت تدرك يقينًا أنك أجمل بقرب انسانك البيت ، وبدافع أناني تصر على السكن فيه. لذا ومن أجلك أحبِبْ بيتك وكن جديرًا به ، لتدوم جاذبيتك !

والدعاء أساس " الإنسان البيت"

تشعر أنك محلق رغم أنك على الأرض، أنت صامد لكنها ليست قوتك. حيوي وتفيض بالضوء لكنك لازلت طينًا. حالة ابتهاج غامضة تتلبسك. تأكد أن السبب هو دعاء أحدهم لك في عالم غيبي مُشرق لا يطاله حدسك. اقبل الهبة ، استمتع بها. واحمد الخالق أن ألهمك لتسكن ذلك الإنسان.

أما نحن، الصامدون في وجه الأقنعة
مازلنا نلتقي في مخبأ سري، اسمه الدعاء.
وسيبقى سريًا لن يهتدِ لممراته الليلكية أي كان. بل عليه أن يمتلك عينين صادقتين تطرحان وردًا وماء في كل المواسم، فهو قد يبكي تعاطفًا مع إنسان لم يلتق به. ويهب بنفس راضية  شيئًا ثمينًا رغم احتياجه إليه فطبعه " المَلوكي" حتمًا سيأخذكَ معه لعالم الرفاهية والجاه لكن ليس كما يتبادر للذهن، غير أنك ستفهم المعنى عندما تصل لهناك .
وهكذا كلما مستْ نظرته حجرًا ، استحال لزبرجت عقيق وأضِف للمجموعة  اللازورد.  وكريم الروح كان سخيًا حتى في رؤاه فغدا صدرة عشًا لقلبٍ ذهبَ بأحلامه إلى الجنة، وعاد مُحبًا لأخيه ما أحب لنفسه* ، هذا هو الإنسان البيت.

لذا  ..
عندما تعاتب إنسانك البيت قل : أتذكر عندما كان دعاؤك بيتي ؟ أنت هنا الآن لكن أين الدعاء، وأين البيت ؟
فقصص الحب تستحق النضال وهي قصة حب لكنها ليست من ذلك النوع !

وأنت ؟!
عندما تناورك حمامة لتحط على كتفك  أعلم أنك قد أصبحت بيتًا لأحدهم . وأصبح لزامًا عليك أن تصغي لتعليمات الطبيب وتعيد النظر لقائمة طعامك وتتأكد جيدًا من خلو الطريق قبل عبور الشارع ، لتعبر ويعبر معك ساكنيك. وبكل أسف لن تصلك وقتها رسالة نصية تبشرك بالفوز بما يعادل وزنك ذهبًا، لكني أخبرك من الآن إلى آخر الوجود ونيابة عن ساكنيك،  أنك الفائز وأنك أغلى من جميع أوزان الذهب مجتمعة.  وأن مقامك من مقام الوطن.

______
* مقتبس عن حديث الرسول- صلى الله عليه وسلم- : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه

الجمعة، 24 مايو 2019

عندما أصبحت بيتًا -3

.
في العالم بيوت كثيرة وأبواب أكثر لكنك تعرف في النهاية أن لك بيتًا واحدًا، وهكذا مع البشر !
 .
في المقابل؛ أنت قد تكون بيتًا لساكن واحد اثنان ثلاثة أو أكثر ! لست أنت من تحدد من يرتاح إليك. فلن تتهرب منهم بقولك: عفوًا لم أقصد أن أكون رائعًا، أو دعني أعيد صياغتها: أعتذر إن رتبت هيئتي كوطن.  ولا حتى مسؤولًا عن تهيئة أركان روحك للساكنين، بل لأنك أنت وكما أنت ، جعلتَ من روحك حضارة، مكانك تُويج ياسمينة ، والزمان الرتيب قوس مطر.

أحبوك نعم؛ لكن من أجل أنفسهم . وكالذي يدرك بديهة تفاصيل منزله: الأريكة المُفضلة ، ركن القهوة أو زاوية الكتب، يعرف ساكنيك ما الذي يبهجهم فيك ويجعلهم كالأطفال وديعين ساكنين في حضرتك، متدثرين بالأمان من أخطار الطريق بل وقطّاع الطرق !
 .
هنالك من تقابله وكأن صوته يسبق حركته، و نوع آخر كأن صورته منعكسة على شاشة ما؛ مهزوزة تشرد حدودها عن مضمونها. أما نوع "الانسان البيت" فكل مَلمح، مَلكة أوعادة، في اتساق تام. اللون طافح بالحب والحياة، والصوت مقتبس من هديل حمام المساجد، ورقراق كجداول فردوس مُتخيلة !  هكذا هي عطايا الله-عز وجل-.

"الإنسان البيت" يكون خفيف الروح، وخفّة الروح تعني الائتلاف دون الحاجة لاشتباك الأيادي ولا لتكرار النظر لخارطة الطريق، والانتقال بانسجام عفوي من الحزن للفرح ومن الغضب للتسامح ومن الحلم للواقع كأثير، تمامًا كتداخل الليل ببعض خيوط الضوء أوّل الفجر رويدًا رويدًا لننتهي إلى الصبح. 

 هي علاقة عميقة بسيطة فيها أقل قدر من الآخرين لكن التآزر يحفها والرحمة وتدها. أفرادها مكتفين بأنفسهم منشغلين بسعادتهم، لا الحزن يكسرهم ولا الواقع يهزمهم.
إنها حقًا قصة حب لكن ليست من ذلك النوع !
.

الجمعة، 17 مايو 2019

عندما أصبحتَ بيتًا -2


.
أعرفُ أنك تُميز الذي يخصك من بعيد ومن بين الحشود ولو كان ملتفتًا للخلف. ولا أنسى قدرتك الخارقة على معرفة أنه كان هنا دون أيّة مساعدة. إنها حاستك السابعة، والتي تتبدى فقط عندما تصبح بيتًا. وليس الجميع يتمتعون بهذه الحاسة، لكنكم فوانيسًا موزعة على أنحاء الأرض سيدات وسادة، نستدل عليكم من أنفسنا عندما نعود أطفالًا في وجودكم ننشُد لفت الانتباه.

واليوم ..
هل تذكر مغلفات بذور زهرة الكاميليا المهملة قرب أصص الرياحين؟  تلك التي ابتاعها أحد ساكنيك بحجة أن مغلفها بديع؟ لم نكن نحتاج للفطنة لندرك أنك من بادرت بزراعتها، ثم عندما انكشف الأمر وقبل أن نجزم أنه من المستحيل أن تنمو وفي هذا الوقت من العام تحديدًا، تحديت الجميع.
بربّك ؟ كيف لنا أن نتوقع أن النور كان من مهجتك والدفء من قلبك والماء من بقايا وضوءك، لتفاجئنا ذات صباح بأنها قد أزهرت، ومنذ تلك اللحظة أصبحت حدقتيك زهرتي كاميليا تُجملان لنا الواقع، وأنفاسك طيب يضوع في المكان أمنًا وسكينة.

 وأنت الوحيد الذي تعامل مع الإنجازات الصغيرة على أنها عظيمة لأنها كانت كذلك فعلًا لكن في بعد آخر من الوجود، وانتهج عادة: كل يوم على الأقل درهم واحد صدقة، قائلًا مكورًا كفيك جهة قلبك؛ أنك ستكسب ما يعادل ثلاثون حسنة في الشهر، ثم واصلت العد كالصغار ملامسًا أطراف أصابعك بشفتيك : ..وفي العام أممم ثلاثون في اثنى عشر شهرًا ..

وقبل أن تكمل العد تربت على جبينك جَذِلًا، لتُعلن أنها حسنات جمّة وأنك تفضل أن تبقيها مفاجأة لنفسك، مستمرًا بالتربيت على الجبين والفراشات تتطاير وكأن هناك من أزعجها في روضتها . فكيف يُخجل الله كائنًا مثلك ؟

ونحن أيضًا نريد أن نكون معك وضمن إحداثيات روحك، تشملنا خطوط الخير ودوائر الحب، أمّا الخير خيرك والحب منك وإليك.
وهكذا ولأسباب متشابهة أو مختلفة يختار البشر أن يسكنوا إنسانًا بعينة.
.

الأحد، 12 مايو 2019

عندما أصبحتَ بيتًا -1


.
تدخل لمكان عام تزورة للمرة الأولى، لكنك ولسبب مبهم تشعر بالألفة والأنس، ثم بعد لحظات يظهر لك وصدفة شخص تحب وجودة جدًا جدًا. 

هي قصة حب، لكنها ليست من ذلك النوع ! 
بين عالم وعالم، مصير ومصير ،  إنسان وروح لكن على هيئة بيت. 

فالبيت ليس فقط غرفة ضيوف، مخدع نوم، طاولة طعام، أو مطبخ تحول تدريجيًا لغرفة جلوس يحوي مُشغل اسطوانات قديم لكنة لا يزال يبث الشجن بنكهة سلطة الرمان ومزاج القهوة، بل هو كل ذك.  كذلك "الانسان البيت" ليس حبيبًا/حبيبة ، أبًا/أمًا ، أخًا/أختًا ، صديقًا/صديقة بل هو "الكل في الكل".  وعلى مهل يتحول هذا الانسان لدفتر يوميات تعبق صفحاته بالطمأنينة وأن كل شيء سيكون على ما يرام . 

 " الإنسان البيت"، يفرش لك سجادة سجيتكَ لتتهادى فوقها. تُقصر؛ فتتحجج بالطقس الحار وغبار الطريق، تنسى؛ فتلقي باللوم على ضيق الوقت، وأنت لم يكن يشغلك حقيقة سوى الدلال على أرجوحة أضلعة. ودون حرج تبعثر عيوبك في زواياه كما تبعثر أمتعتك هنا وهناك عند وصولك للدار بعد يوم شاق. فأنت تعرف أنك مُسامَح. وأنه باق، فالإنسان البيت لا يغادرك مطلقًا بل أنت من تذهب وتعود إليه.
 إنسانك البيت ينثر النجوم في عتمتك، يفتح شبيابيك روحك لحُبيبات الطلع والعصافير الصغيرة، يجدد إيمانك أن هنالك من يفهمك بلا كلام منمق و حتى بلا كلام، حيث لاحاجة للتبرير والتفصيل فقط الغناء المُرتجل هو سيد الموقف.

يقنعك بأنك لست غريبًا بل العالم غريب! وأن مكانك بقي خاليًا في مكانه ينتظرك، وأن انتظارك هو حالة خاصة من حالات البحث عنك! يستدرجك لتفصح عن أمنيتك الخطيرة والمتمثلة في إخراج رأسك من نافذة سيارة ما تسير في نفق ما، وتُطّير شعرك وذراعيك في الهواء، لتصرخ فرِحًا بآخر بيت شِعرٍ علق في قلبك، دون أن تكترث للآخرين، لأنه الآخرين وهو الكل في الكل أوَ لم أقل هذا سابقًا ؟
.


الأربعاء، 3 أكتوبر 2018

.

السلام عليكم 

أقولها، فتشرق ناصيتك أطواقًا من الأغصان مُحملة بالأخضر، مُستجلبة باقة من النهارات الآمنة تؤُمها شعب غزلان، وتُزخرفها بساتين نخيل، جميعهم يطمحون بالانضمام لإكليل السلام على جبينك. 
فتبدو من بعيد . . .
وكأنك عيد . . .

السلام عليكم ورحمة الله 

تخرج الحروف كرَّفة جناح، صوت للون الأبيض ! تنبثق من السكون كأنها بداية طلوع الضوء في قلب كل إنسان في كل يوم . أوْ لنقل كأنها العبارة التي أجلََّت البشرية قولها ككلمة أخيرة في حفل ختامي للوجود ! 
رحمة الله هي من تُعيدنا أطفالًا في كل فجر جديد. أقولها فتنهمر على روحك كنهرِ بَرَد جارٍ لك وحدك. تقولها فتخرج كسجادة صلاتك. وأحيانًا حارسك الشخصي، هي الاعتذار عن مالم يعجبك قبل لحظات في عالمك، بل هي التسوية والوعد.  

السلام عليكم ورحمة الله
رحمة الله قماطك من الميلاد إلى أن يشاء اللة. بوصلتك الداخلية، تشير لك أن تقدم هنا، اطمئن لهذا وأعرض عن هذا، تقيم لك حواجز لتحيل بينك وبين من تصفو لهم و يمكرون لك .
تنقذك . .! فقط لتبقى إبتسامتك موجودة، إبتسامتك التي يقتبس منها الآخرون قوسين يكتبون بينهما أمنياتهم.  

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

البركات . . ! موجة من ماء المطر .
السمو كلّه لك عندما تحفك بركات الله - عز وجل- في وقتك ومالك ورزقك، البركات سكنتْ هذا الربيع المُسمى وجهك، وهي التي جعلتك " بشارة " يتهلل لمرآها أحباؤك بلا حول منك ولا قوة، هي البركات التي أعطتك دفقات لتتراشق هكذا بكل عنفوان وبهاء لتصبح إنسانًا يُحَيَا ويُحَيِي بـ " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " .

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تُعلن حربًا من "الكلام الزين" في ساعة السِّلم، وسلامًا في ساعة الحرب، هي التحية الأخاذة التي تُحيل غريبًا لشخصٍ مألوفٍ، تُقال فتبعث سحابة رقيقة من الضوء والنوايا الشفافة تُظلِّل ولو للحظات الصاحب والعدو، الفقير والثري، السعيد والشقي. تصلك التحية بصيغة الجمع ومهما كنت وحيدًا تشعر أنك كثير، مكتفٍ وراضٍ. 

 السلام، الرحمة والبركة جميعهم يطوفون عبر الكون على مر الأزمنة ، هذه القوى الجبارة  ليست بحاجة لإنسان بعينه لأنها ماضية على كل حال بمشيئة الله -عزَّ وجل- عبر أجيالٍ من البشرية يسعدون بتمريرها علي هيئة تحية،  لكنك من بحاجة لإلقائها ومن قلبك، فذلك يعني السماح  بكل هذا الفوج الرباني من الهبات النورانية بالعبور من خلالك للخارج، تاركة شيئًا من إضاءاتها في زوايا روحك . 
     
    

الأربعاء، 18 يوليو 2018

مُعجزة اسمها الحنين -3

.
الحنين ليس منك فقط بل هو أيضًا إليك.  ألم تكن في يوم ما مكافأة في حياة أحدهم ؟ ألم تكن نعمة، أو سببًا في أن يستعيد ذلك الشخص ثقته بالعشب؟ أو حتى أقل من ذلك بكثير، ألم تكن دافئًا مُسالمًا ؟ أو حتى صامتًا برضا؟ تأكد إنهم يحنون إليك الآن وللوقت الذي جعلته وصْلًا. هل تذكر كيف كانت الأمكنة قبل حضورك مشهدًا ساكنًا كلوحة رسمها فنان محترف لكنه لم يسمح للحياة بالدخول في بروازها ثم أتيتَ أنت وأتيتَ بالمعاني والحدائق معك .  ومن ذك زهّر الأنس بين أكتاف البشر، ومن الأنس تكثف الحنين على صفحات الأيام ناضمًا أشعارًا يومية مبهجة .كل يوم قصيدة جديدة، وهكذا إلى آخر العمر ! هذا ما صنعته وتصنعه أنت ، أفلا تستحق أن تُعامل كقطعة نادرة نفيسه ؟

والآن، سيلقنونك أن تخجل من طفرات الحنين، لا تهتم. إنه قلبك يصلي، فهل تُقاطعه؟ هكذا يحمد القلب الوفي خالقة على النعم القديمة. سيتهمونك بفرط العاطفة، قل لهم: يروق لي ذلك! وتأكد أن من ينتقدونك في العلن يمارسون الحنين في الخفاء! فالحنين مس من الجنون يحتاج مغامرًا مثلك يجاهر به. هو زمن جاء من البعيد مُحملًا بأجيالٍ من مسراتك العتيقة، علامات بارزة في تاريخك الشخصي المجيد، هو هدية إلاهية لتسري عنك. لحظات خشوع مضيئة خلال يومك فلا تردها أو تقاومها.

تأملٌ صغير في أجسامنا لندرك أنها ليست عبارة عن دورة صغرى وكبرى فقط، بل أيضًا مجموعة من الذكريات وحزمة من الأماني، وإن كانت سطوة الماضي أكبر بكثير من المستقبل عكس ما يدعو إليه رواد التنمية البشرية، والدليل أننا كلما نحل على مكان جديد، نسارع إلى اكتشافه وتهيئته ما استطعنا ليلبي تطلعاتنا وراحتنا أو بعبارة أخرى نُهيئ منزلًا مناسبا للحنين، ومن هنا تصبح تجربة الحنين مُحركًا خصبًا لخططنا المستقبلية، مِنْ ما نحن إليه نستمد أفكارنا وبهاءنا ومنه تتعتَّق خبراتنا الإنسانية لننتشل أنفسنا في لحظات المغيب، ومن حصاد الحنين وتجاربنا نعيد ترتيب أوراقنا وأولوياتنا، للأننا نريد شيئًا شبيهًا بفخامة ودفء الحنين، لكن بصورة مُعدلة، وهذه هي الأماني، أليس هذا هو ذاته المستقبل ؟ فالحنين زمنٌ مُعَشّقًا بالشعور ماضيًا كان أم مستقبًلا ، إلا أنه زمنًا في طور الشيخوخة والحكمة .

هل عرفت الآن لماذا نرى تلك النجوم والومضات المضيئة عندما نفرك أعيننا بشدة؟ هي ليست biophotons  كما فسرها العلماء، بل ذكرياتنا الجميلة، تطفو في الحاضر كلما استدعاها القلب وحن إليها. وإن كان الشوق والحنين لا يحرق سعرات حرارية كالضحك، إلا أنه يولد سعرات سعادة ينبضها القلب، لنكمل من حيثُ ما انتهينا لكن مع مراعاة فارق التوقيت في هذا الكون الشاسع المُسمى " الروح" فأنت لا تعلم متى سيداهمك الحنين أو أي طرف من كيانك سينال. فحنوا ما إستطاعت قلوبكم إلى ذلك سبيلًا. إختاروا من تعاشرون بعناية، انتقوا أحباءكم، اعتنوا بأيامكم ولحظاتها لأنها مستقبلكم وستحدد خياراتكم القادمة.

والآن هل لا زلت تخجل من حنينك ؟ لا تفعل أرجوك !  بل عشه واتبعة، اصنع طبقك الشعبي، ابحث عن أغنياتك وأفلامك القديمة المفضلة، زر أماكنك العتيقة، أحط نفسك بما يُشعرك بالعراقة، كن متفردًا بعاداتك معتزًا بها وأضف إليها لمستك الحالية، لا تكن نسخة مما هو موجود فالعالم ليس بحاجة للمزيد منهم ! لكني لا أنصحك مطلقًا أن تبحث عن من تحن إليهم وتعيد التواصل معهم، لأنك ستُكسر ! وتجد أن الجميع قد تغير إلى الوراء و انضم إلى عصابة ما ! كوّن عصابة خاصة بك أعضائها أفراد أسرتك وسمِّها عصابة الحب !  

.
أحن إليك مُسبقًا !
قبل الموسيقى
و قبل الشروق أو وسط  الحشود
قبل الأسماء والوفرة
قبل الفنتازيا والحقيقة
والممتلكات الفخمة وتذاكر العودة والاياب
والماس واللمعة ،
تعرف أن كل هذا لا يعنينا
قبل وبعد الطفرات الجينية !
أحن . .
فقط للشيء الأصيل والحقيقي فيك . .
غصن أخضر وذكرى لطيفة تكفي لتصبح أسطورة
أنت ؟ على الدوام مرحبًا بك
حللت أهلًأ ووطئت روحًا
فعليك السلام يا كل السلام.
.

الحروف العربية التي ظهرت في تصاميم هذه الثلاثية كانت من مقال الأستاذ خالد محمد خالد: جرعة من الخط العربي.  

السبت، 14 يوليو 2018

مُعجزة اسمها الحنين - 2


 
الكتابة عن الحنين بمثابة اللكز على جرح ما، ذلك أننا لا نحن إلّا لما فُقد. وكلما تقدم الزمن تقادم الحنين فينا وازداد الجرح عمقًا، فالحنين ليس خطّة في أجندة أعمال، بل هو شعور يداهمك فيصبح هو الخطة وفيه المكان وإليه نشُد الزمان. هو تأكيد منك على تاريخك وحالة رضا وحبور بأقدارك وإنما بأثر رجعي !

الشعور بالحنين يعني بذل أقصى قدرة لقواك العقلية في وقت حزين يفرض ظلاله على خلاياك، أنت ترفض واقعًا ما، فتلجأ للرجوع للخلف كأن تستعيد شعورًا بالبهجة نسيتَ أن تعيشه في وقته كما يجب، لكنه شعور مغلف بالشجن أيضًا ! هذه الخلطة المبهمة هي بمثابة حالة انعاش لقلبك ليعود قارئًا لتفاصيل الحياة. الحنين سيجعلك أقوى، أشد إعتدادًا وعنادًا لما يروقك، أكثر عطفًا بالغير. أما الذين لا يحنون فبإمكانهم الإنضمام لمتاحف الشمع أو اعتبارهم من ذوي القدرات الخارقة !

 أحن للكثير لأنني إلتقيت بأشخاص جميلين في معظم مراحل حياتي، ولأنني أستخدم حواسي جميعها في التعامل مع الحدث، أحن إلى تسريحة ذيل الحصان، والغرة التي تدعي المعلمة أنها تعيق الرؤية وللمعلمة التي أدعت ! ولرائحة التراب بعد سقوط المطر في رحلات البر في أقصى ركن في الذاكرة وأغنية " أحب البر والمزيون أحب البدو والأوطان" ولأجندة أبي العشبية، أحن أن أبحث عن أمي وهي أمامي تتماهى بين شجيرات الورد التي تزرعها في حديقة البيت وتندمج مع أغصانها، فتصبح جوريّة وتمسي شجرة خزامى وبين الأوقات هي ياسمينة على هيئة إنسان.

 أحن لظني القديم في البشر أن يعود حسنًا سليمًا بعد أن خذلنا الكثيرون باكرًا، ولأسماء أخوتي جميعهم تعود واحدًا تلو الآخر في "دفتر العائلة" كسلمٍ موسيقي ينشز إن فُقد أحدنا ولاسم أبي يعود ربًا للأسرة، ولأنني أعلم يقينًا أنه لن يحدث، يصبح الحنين ملجاً ثم بمرور الوقت وطنًأ ! وكما يبحث المُهجّرون عن مأوى نبحث عن ذكرى نلوذ أسفل فيئها بل ولنا حق اللجوء الوجداني لأرواحنا القديمة، فهل  نتخلى عن حقوقنا ؟
       
أشتاق لطفل يقرر في وسط "اللعبة" أن يكبر ويصبح رجلًا فيخلع نظارة أخته الصغرى ثم يمسح زجاجها ببطء وعناية بطرف "كندورته" ويعيد إلباسها بحذر أكثر، وهي تنتظر مفتعلة عصر عينيها رافعة جبينها للأعلى وكأنها على موعد مع غيمة ما لترش وجهها بزخة مطر. ونحن أفراد العصابة الصغار ننظر وننتظر إنتهاء هذه الزخة وكأنه في كل مرة يحدث لأول مرة، لنستأنف بعدها كلٌ ودوره في " اللعبة".

كبرنا، وتعقدت "اللعبة" !  جميعنا شعرنا في لحظات ما بعدم الرغبة في إكمال لعبة الحياة ، لشعورنا بالظلم و أن هناك غشًا في النتائج وبعضنا لم يكن يلتزم بقواعدها، لكننا في النهاية نتماسك ونستمر لأن ما ينقذنا فعلًأ هو القدرة على الشعور وبالحنين تحديدًا.

الحنين ليس ثوابًا فقط بل هو عقابٌ أيضًا، لأنه تمامًا كما قال أحدهم إن أردت أن تؤلم إنسانًا أترك له ذكرى جميلة وارحل !

ومازال للحنين بقية


الأربعاء، 11 يوليو 2018

مُعجزة اسمها الحنين -1




.
تقول الأسطورة :
كلما اعتراك حزن مُفاجئ دونما سبب واضح فذلك يعني أن أحدهم - وغالبًا ما يكون بعيدًا عنك- يَحِن ويشتاق إليك بشدة، وأنه لفرط حنينه يؤلمك !

أغنيات فيروز معظمها قصص، نهايتها الحنين سواء عرفت "لمين" أم لم تعرف. بينما يشدو ميحد حمد " لوّل معي زايد غلاكم . . واليوم مالي في معاناكم"، هكذا بكل بساطة يأتي بشعورة القديم من زمن قديم عُنوة ويعيشة بل ويغنيه، ثم يعيدة مُتراجعًا إلى ما أفضت به الأيام، لكنه ينتقل هكذا بين الزمنين بعد أن أستقل مركبة الحنين ! وفي الجانب الآخر وردة تصرخ مُطالبة بمعجزة تنقذها من الحنين، لكن أليس الحنين في حد ذاته معجزة ؟ لها القدرة على تصفية الصور وتحسينها، رغم أنها صورة بعيدة إلا أنها قد تكون أكثر تشبعًا بالحياة والألوان مما كانت عليه في الواقع، لأن الإطمئنان يغشاها،  نستحضرها بعد أن عرفنا ما آلت إليه الأمور. 

بطريقة ما تمضي الحياة وفق نسق ينتهي بأن نمر كل يوم بتجربة الحنين، إنه فن ممارسة الأمل ولكن بصيغة الماضي ،ولو كان للحنين جسد مادي لكان هو ذاته الوطن الذي نعيش على تُرابه، هنا حيث نمتلك بيتًا كبيرًا كان أم صغيرًا، وأثثناه، غادرناه، عدنا إليه وغادرناه ثم أخيرًا عدنا إليه، خلقنا لأنفسنا روتينًا معينًا، وعادات خاصة، فيه تعلمنا شيئًا لا يعرفه أحد سوانا، شيئًا غامضًا منح كلٌ منا نظرته الفريدة، ويجعل الآخرين يميزون الأخوة وساكني المنزل الواحد دونما إشارة منهم. لمنازلنا نعود مولين ظهورنا قبح العالم، إليه رجعنا متلهفين بعد إنتهاء يومنا المدرسي لنطبق درس تجربة "العلوم" وزرعنا حبوب الفاصولياء في قطن أبيض بلون الحلم، وفيه كنت أختفي كل أربعاء في مخبئي السري برفقة مجلة ماجد منتشية برائحة ورقها.

أمام عتبات بوابته أنتظرتُ وأخوتي أبي ببدلتة العسكرية، قادمًا بطلعته المهيبة من " سويحان" ، " الحمرا" " القاسمية" أو " المرقاب"، مُتألقًا بجبينه الأبيض العريض كقمرٍ استثنائي طلع في عز النهار، ماشيًا مشيته العسكرية كحركة غريزية وإعتيادية في المسافة القصيرة بينا ، حاملا بيدٍ كيسًا يحتوي حلوى kinder surprise  بعددنا ،يوم كانت قطع ألعابها الصغيرة تحتاج لتركيب فعلًا  قبل أن تفاجئنا الحياة بمفاجآتها، طاويًا في اليد الأخرى جريدة الخليج ورائحة عطر dunhill تأتي معه من مكان بعيد بعيد بعيد ،ثم تغيب في مكان لا معلوم هناك حيث تتجمع دموع البشر بعد أن يذرفوها.

هذا هو الوطن حيث نمارس أنفسنا، وكأننا قطع فنية ثمينة وكل شيء مسخر للحفاظ علينا وهو ذاته الحنين، لأنه ببساطة ذوقنا وما يعجبنا فجعلناه عادات لنا، وبنينا له مسكنًا ملأناه بكل تلك الحاجيات والعادات وأسميناه "بيتنا".

وأنت ؟ لا تكن حجرًا وقد خلقك الله إنسانًا ! دع قلبك يعزف موسيقاه كما يُحب، اذهب معه حيث سيأخذك إلى باقي أعضاء الأوركسترا و لزمنك الجميل. (الزمن الجميل) مصطلح اخترعه الناس تعبيرًا عن القديم الجميل،  فمن الواضح أنه ليس قلبي وضواحيه من يعانون من أعراض الحنين، بل جميعنا ومهما اغتربنا لا بد أن نحط أخيرًا في وطنٍ يدعى الحنين.

وما زال للحنين بقية 




              

الثلاثاء، 13 مارس 2018

ربَّيتها بعيني*

شجرة الليمون التي ربَّيْتُها بعيني *
العبارة لأمي الحبيبة ، تُشير إلى مراقبتها لنمو أشجارها التي تزرعها !
.




    

السبت، 18 مارس 2017

روح وريحان

إهداء : لكل أنثى دُونت مهنتها في سجلات العمر والسجلات الورقية : ربة بيت !

الجمال هو الكحل قليلًا والحنان كثيرًا في عينيك
في تلعثمك وخجلك
لا تسمحِ لأي كان أن يُعيد صياغتك
هذا الوجه وجهك، ينبض بقلبك وتُدفئه روحك
الجمال كله في صوتك، في ملامحك في عباراتك التي تكررينها دومًا
في حرف السين الذي يخرج منك مختلفًا
الجمال في وقوفك على باب الفجر
تتوضئين لصلاة بينك وبين خالقك
هو عطرك الذي اختلط قليلًا مع رائحة قهوة
أعددتها بعدد أمزجة ساكني الدار، لكن بمزاجك الخاص
الجمال أن لا تشبهي أحدًا بينما يدَّعي الكثيرون أنهم يشبهونك
الجمال هو مرور كفاك على خصلات شعرك ، كموجتين على ساحل وجهك
هو صمتك، ليصبح الصمت هو الحديث المناسب
هو حديثك لتصبح كلماتك أغنيات اللحظة والغد
هو غضبك من حديث الناس عن الناس وغربتك بين البشر
هو هلعك عندما تخطئين
هو تلك اللحظة القصيرة والنظرة العميقة عندما تفضين هداياك
هو الشيء الذي لا نعرفة ولا نرغب بذلك ، لكنكِ توزعينه بكل اقتدار وبراعة
هو طريقة امساككِ بفنجان القهوة، هكذا باصبعين من الأعلى وثلاث محلقات كفراشة
هو هيبتك، نورك وظلك، حزنك وبهجتك، ظُلمكِ وعدلك ، وحضورك الذي يزرع المكان فُلًا وريحانًا
الجمال أنت، مهما كنتِ
لأنك من تصنعينه.                  

الجمعة، 23 سبتمبر 2016

خطوط الضحك والأحزان























مقطع من قصة تأبى النهاية
كنتُ متفائلًا، نجحت في الوصول للسطر الرابع في محاولة مني لأكون في الصفوف الأمامية، المكان يعج بالفتية والفتيات، ألوانٌ كثيرة وكأنهم يخلقون ربيعًا من نوع آخر.
بدأ الحفل، كنتُ متحفزًا لسماع نص الرسالة الفائزة، وفي أعماقي أرجو أن تكون رسالتي. أُعلن اسم الفائز ... الفائزة، آه ... لم يكن أنا، كانت فتاة تُدعى مريم. 
أدار الجميع رؤوسهم متطلعين إليها، كانت تشق طريقها قادمة من أواخر الحشد، بدت كسيدة مهيبة وهي مقبلة، اقتربت من المنصة بوجل. شاشة الحفل من خلفها تُكبِّر وجهها، وكنت مع الحضور أرقب أن أسمع نص رسالتها الفائزة بصوتها، ولبرهة غمرتنا جميعا بنظراتها التي بدت كأمواج قادمة من رحلة بعيدة، ثم بدأت بعبارة :أدري ... ،أدري أنك لست موجودًا . يا إلهي  ! هذا الصوت الصافي من كل شيء، الرائق كنهرٍ جارٍ من الجنة ، جعلني أقدر أنها طفلة لا تتعد السابعة عشر ! ...رغم حضورها الآسر بدت خائفة و صوتها مترددٌ وكأنها تتمرن على الإلقاء في غرفتها الخاصة ،لكني أدركتُ لاحقًا أن هذا هو أسلوبها في الكلام .

أكملت نص الرسالة :
أدري أنك لست موجودًا، لكني على يقين أنك هنا بطريقة ما، أريد أن أخبرك أن جميع ما قلته كان صحيحًا، وأننا لا نتعلم من دروس الحياة إلّا بعد أن تُؤخذ قطعة من قلوبنا.
لابد أنك كنت تعني أنني أكون أكثر جدية في العمل وفي إتمام الأمور على أفضل وجه وأنني أعامل الحياة برسمية أكثر على حد تعبيرك  عندما أكون حزينة أو غاضبة ! لكني اكتشفتُ وهذا ما أحب أن أخبرك به الآن، أن الجميع كذلك، ربما سيتبادر للذهن، هل على البشرية أن تكون حزينة أو غاضبة بهذا الشكل المؤسف لكي تبني حضارتها ؟ ولماذا نفعل شيئًا لا نحبة وإن اضطررنا لذلك أليس أسهل علينا أن نُحب الشيء الذي نفعله ؟

أرخت عينيها و كأنها تنظر لطفل تحمله بين ذراعيها ، أكملت دون أن تقرأ من الورقة :
رأيتُ دموعك لمرة واحدة في حياتي، كانت تلك المرة عندما اُعلن وفاة موحد بلدنا الشيخ زايد، هزمتني تلك الدموع وكأنك أعرتها لي لتكون وضوء روحي لتتوب من التعلق في يوم ما، التعلق بروح أخرى وإن كانت روحك، الآن أستطيع القول أنها كانت نقطة تحول في طريقة تفكيري وتعاملي مع تفاصيل الحياة.

عادت تبعثر نظراتها علي الورقة وكأنها توزع بذورًا في بستان الرسالة :
علي الاعتراف أنك كنتُ نجمي على هذه الأرض، فالمرء قد يصادف في حياته نجومًا أرضية. تعبر بهدوء كظاهرة كونية في أفق أيامه ، لا تتكرر أكثر من مرة أو مرتين إن كان محظوظا ، عليه أن يكون يقظًا ولا يفلتها، هؤلاء هم الصامتون الملهمون سيضيئون لك طريقًا، أو يصنعون من أجلك يافطة تحذيرية، وقد يحولون أضلعك الخائفة إلى غصون خضراء، ثم سيغادرون بهدوء بعد أن علموك كيف تكون أنت نجمًا لأحدهم ! 
ونحن صغار نسأل كثيرًا  لنجمع الحقائق ، لكن إدراك الحقيقة يختلف كثيرًا عن معرفتها ! نعم، فنحن نبقى في سن الطفولة فترة قصيرة، بينما سن النضج هو الأطول ليطول إدراكنا وفرحنا وربما ألمنا وشقاؤنا. ورغم ذلك أعتقد أننا حقيقيون أكثر ونحن أطفال،  سألتني مرة ماهو حلمك، فأجبتك : أن أصبح قاموسًا أو مدينة ، سأقول لك الآن انني قد قطعت شوطًا كبيرًا لكنني أبتعدت عن طفولتي ...أعني  حقيقتي كثيرًا .
ما أن نكبر نعتقد أننا نستطيع الاختيار، نجتهد في تنسيق حياتنا ، بينما لو جربنا الخروج خارج إطار اللوحة للاحظنا شذوذًا ونفورًا غالبًا سببه تحيزنا القلبي.

رفعت وجهها إلينا وأمالته قليلًا باتجاه اليمين إلى الخلف من حيث خرجت من بين الحشود في البداية وكأنها تبحث عن شخص بعينة وأكلمت :
والآن دعني أذكرك بثلاثة حقائق أنت تعرفها وتعرف أنني لم أكن أعرفها حتى مررت بكل ما قد يمر به أي إنسان وما يقود لأن تظهر تلك الخطوط في وجوهنا أقصد خطوط الضحك والأحزان. أولها أننا لا ننسى ليس لأننا نعجز عن النسيان، لكننا لا نرغب فعًلا بالنسيان ، ربما لأننا لا نريد أن نتخلى عن ما جعلنا (نحن)، نحن الذي نعرفة ونشعر اتجاهه بالألفة والسكن. وثانيها أن ليس للوقت مفهوم واحد لكن في الوقت نفسه الوقت لا يختلف مطلقًا لمن يحمل ساعة مرصعة بالياقوت عن من لا يقتني ساعة مطلقًا. ثم إن ما يبقى من الوقت قليل وهو الشيء الحقيقي أو قد ما يُسمى ذكريات، من ذلك كلة بقيت الساعة التي رسمتها على معصمي بالقلم الأزرق الجاف عندما كنت في السادسة ساعة حقيقية، هذه الذكرى تستجلب معها دفء وبريق غامض هو ذاته الذي يتبدى عندما يحن المرء لشيء أثير أو يشفق إنسان على إنسان، ربما هذا الإلتماع الغير مفسر في العيون وارتعاش الصوت هو بريق حجر القلب، وهو حجر كريم تتمنع البشرية عن اكتشافة لأن ثمنة أن تُعطي. يُصقل القلب وتتساقط قطع منه فيلمع ونتألم ونتعلم، أوَ لم أقل هذا سابقًا؟.   ثالث الحقائق أن معظمنا يُصرف حياته في  البحث عن المفاتيح ، مفتاح النجاح ، الحب، التوبة ، الأمان ، في حين أننا نُولد وهي بحوزتنا ومهمتنا هي البحث عن الأبواب والاستعداد لمواجهة ما خلفها.

خفضت نبرة صوتها وكأنها تُحدث نفسها بل كأنها تحدث كل منا على انفراد حديث خاص، من الواضح أنها مستمتعة باللحظة   :  
لماذا تلك الحقائق الآن ؟
تلك الحقائق تقول : عامل نفسك أنك الشخص الذي ينتظر الآخرون قدومه ليضيء لهم المكان وأن الزمن كاد أن يقف لولا أنك قد حرَّكت الحدث ، وأنك الذي تعرف وتقول ما تعرف إذا كان حسنًا وتصمت وكأنك لا تعرف إن لم يكن مناسبًا.  انظر لذاتك على أنك الأكثر تسلية على مر العصور، تواصل مع روحك وكأنك روح أخرى معجبة بها بل وأعجب بها فعلا، لا تنتظر أن ينقذك أحد، كن بطل نفسك.
 لِمَ تنتظر العيد وبإمكانك أن تكون عيدًا ؟
 لا تُسيِّد أحدًا على قلبك لكن دع كل شيء مهما صغر يحرك قلبك. لا تكن مصممًا كصخرة يلزم أحيانًا أن تدع الأشياء تحدث. امش باتجاه الطريق القديم لكي تعرف وتمتلك مهارة أن تهندس طريقك الخاص.لا يكفي ذلك! يجب أن تحبة لكي يخضر فيفضله الآخرون ليتبعوك عندها فقط سيُسمى طريقًا .هل تشعر الآن بثقل مسؤوليتك اتجاههم ؟ تذكر فقط من كنت و كيف بدأت.
لا تتدخل فيما لا يعنيك، بل كن الكل فيما يعنيك.          
إن أرهقك حٌلمك تخلى عنه، فأنت أهم من الحلم، ويكفي أنه بمقدورك تأليف حلم آخر، كن رحيما بذاتك وعاملها بذوق، أعطها ما تريد إن كنت تستطيع.لا تخشَ شيئًا لأن ما نخشاه يستدل علينا ويحدث لنا، لا تعلق آمالك على الآخرين فقط ثق بالله ، قبل أن تأوي  إلى فراشك إنسَ كل قصائد الصب والجواهر والعمل النقدية ، إزرع فقط وردة واحدة في قلبك ، يقينك بالله، فهو يكفي لتكون أنت أنت. لا تحتاج لأكثر من شيء واحد من كل نوع ترغب به ، رفيق واحد..أم واحدة ..أخ واحد وعطر واحد وعالم واحد.
ولا يلزمك إلا يوم واحد لتكون جيدًا كفاية لتُنهي كل ما أجبرت نفسك على فعله فقط لأن الحياة تتطلب ذلك . لتكن أنت العالم الذي تنشده، لتفاجئ نفسك وتجدها.  كن عنصرًا خاملًا بين المتحركين واستوعب حركتهم. راقب بصمت وتأمل. انتظر فرصتك ، يومك، إلتمع ولو لمرة واحدة وإن كانت أخيرة . حافظ ما استطعت على الخيط الذي يربطك بالبشرية لأنك تشكل عقدة الأمان لمجموعة ما من البشر، كل اضطراب وهلع لحق بنا في زمن ما  كان سببه أنانية  أحدهم ، إما أنه أراد كل شيء أو أنه ترك كل شيء وغاب.
عش نفسك، أضحِك نفسك، أضحَك على نفسك ، عندها ستضحك الدنيا معك .
هل تتخيل ما قد يحدث عندما تضحك الدنيا من أجلك؟ سيقبل البشر أخيرًا أن يتشاركوا في نظم قصيدة واحدة تحكي عن سر الإنسان ، كل إنسان سيكتب بيتًا وسيرسله إليك على هيئة بهجة صغيرة تزين أيامك، ووحدك ستعرف كل الأسرار، وأنت جدير بأن تكتمها وتبتسم، ستصبح في مكانك عاديًا جدًا حد الإختلاف بعد أن سجن الجميع أنفسهم في خزائن الطموح، و سيعرف الجميع قيمتك الجوهرية كصَدَفة مغلقة على لآليء . سيود البقية أن يستعيروا منك لؤلؤا ليبدون أجمل وأسعد وستمنحهم. اعلم وقتها أن دورك قد حان لتصبح نجمًا لأحدهم ، وعليك الاستعداد لعبور سماء حياته بكل ألق وتوهج، لفترة خاطفة كعمر وردة وعميقة كجرح في القلب، نشعر به ولا نصل إليه، لنُطببه.

عامل نفسك على أنك الكون لأنك كون، ونحن نستحق أن تكون معنا بتلك الروعة.

رمقتني بخفة أو هكذا خُيل إليَّ ! كنظرة فتاة لزينتها في المرآة ، وكنت أنا المرآه .

صمتت مريم . أنهت مقطوعتها الموسيقية ، بعد أن سرقتنا في غفلة من قوانين الفيزياء وجعلتنا نسبح في ملكوتٍ أُخر، عدتُ بمسحة من شجن إلى مكاني المادي الذي كنت فيه مجرد شخص بين الحضور،انسحبتْ من المنصة برشاقة غزالٍة، تاركة النور الذي جاءت به خلفها، كانت زيارتها قصيرة وفارقة كوقت الفجر. عادت همهمات الحضور، لكني لحقتها دون وعي ، كنتُ اتبع غطاء شعرها المزين  هوامشه بورق شجر،أدركتُ عندما غابت في زحام الفتيات أنها أصبحت تشبه الأخريات بل كأنها كل الفتيات ، شعرت فجأه أنني فقدت عزيزًا أعرفه منذ أزمان، كانت تلك أول وآخر مرة رأيتُ فيها مريم.
                           

السبت، 28 مايو 2016

منازل القمر



كأحد المصابين بمتلازمة الأمل ، لم يعد أمامه سوى طريق واحد للوصول إلى حديقة النسيان. 
أن يخرج خارج ذاته وخارج دائرة الزمن الحالية، أن ينفي نفسه إلى غروب أخير، إلى وردة أو قصيدة، إلى منزل من منازل القمر.
الهجرة إلى مكان شاطئه مسك الطفولة أو لعلة مسك الكهولة، لم يعد هنالك فرق، فهو مصاب بـال (ليثولوجيكا)* وبسببه تسقط من قاموسه كلمة (الختام). 
ترك خلفة تمويهًا لأحباءٍ يُلاحقونه ، عنوان قديم في أغنية لم يعد يسمعها أحد، وقذف بهاتفه المحمول في مكان مجهول أسفل براد مياه كُتب أعلاه ( سُقيا الماء) ومع دموع مياه السُقيا ذابت الأسماء، الأرقام، الصور وتواقيت الاستيقاظ للحياة والإيواء للحلم ، ومنها بدأت رحلة النسيان.        
لكن القلب بقي في أول الطريق ، طفلًا ، يأوي ياسمينة خجولة وشوكة حادة صغيرة.
المغادرة في رحلة أخيرة عادةً لا يتطلب أمتعة كثيرة ، لأنك لا تعود أنت ، تترك متاعك على جانب الذكريات للعابرين. 
يعثرون على دفتر مذكراته، يقرأونه فلا يفهمون شيئًا 
من يفهم لمَ كان يسرح في خيوط دخان قهوته ؟ من يهمه أن يعرف لم كان يَعُد كل تلك الأشياء المُملة.  
يَعُد البشر على خط المشاه ، السيارات البيضاء والفتيات اللاتي يرتدين البنفسج 
يَعُد المراهقين الخارجين من (بيتزا هت) بعد صلاة الفجر !
يعد طوابير النخيل الواقفة على جانبي الشارع  ، بل ويعد القمر الواحد مرة تلو الأخرى 
من أين لهم أن يعرفوا أنه لم يكن ينتظر ، بل تلك طريقته في ممارسة الفرح 
لا يبحث عن من يكترث له و لم يعد يهتم لأحد ، وأيضا لا أحد يهتم لأمر شخص مُمل مثله كل مهمته أن
يتبرع بـ (أجيالًا من الأحزان) للمدللين ...
الذين حُرموا من أن يدركوا معنى أن يكون الإنسان إنسانًا.
____
*ليثولوجيكا lethologica : عدم القدرة في بعض الأحيان على تذكر الكلمات والمفردات المناسبة.

           

الجمعة، 22 يناير 2016

الخميس، 24 ديسمبر 2015

طبيعة صامتة...(2)/ قائمة الأمنيات


والآن ...
من يَذكر الورق الأصفر المُسَّطر بلون أزرق غائم ؟ ومتعة الكتابة بالقلم الأزرق الجاف ؟ رائحة الحبر، عبق الأيام، والزمن يركض على تلك الأسطر التي حوت يومياتنا، واحتضنت قائمة أمنياتنا، والحكاية التي طالتْ لكنها وصلت أخيرًا إلى نهايتها، فانهارَ الأزرق أمطارًا ، وتحولنا بقدرة قادر إلى - طبيعة صامتة-
 نتوحد أمام شاشات باردة، ونكتب بأزرار معدنية، حتى أننا أصبحنا مثقفين كفاية لنعرف المعاني واللغات، المعلومات الطبية والجغرافية، ونحن نجهل المعنى الحقيقي الذي يختبئ في قلوبنا ونتعثر بالجغرافيا التي تقف عليها أقدامنا وتضم أجساد أحبائنا، ونتناسى الحُلم الذي من أجله بدأت يقظتنا.
قل لي ما هي أمنياتك أقل لك من أنت ؟ وإن رغبتَ أن تُعيدَ أصدافَ أيامك إلى شاطئ الطفولة دعني أخبرك بسري المُعلن : تَمنَ ... فالتمني من شيم الأطفال، تمن فأنت بلا أمنيات تحمل وجهًا بالأبيض والأسود . 
لنعود إلى ما قبل البداية، بداية زمنك، أصل الإنسان فيك، عندما كنت شفافًا كبلورة مسك، وكانت أمنياتك هي موطنك الأصلي، مُشتقتك الأولى التي عجز علماء الرياضيات عن الوصول إلى جذرها ...
تفاصيل تبدو تافهة للغير، تشكل كل حياتنا، أحلام ليس لها وزن في الجاذبية، كوَّنتْنا حُبًا على شغف، عطرًا على مطر، لونًا على ورد، وروحًا على جسد. أمنيات جعلت منا نحن، وكل يوم يأتي حاملًا معه هدية مختلفة، نُضمنها باقة أمنياتنا لنغرسها برمح سعفة في جرّة القلب. أمنية جديدة تحولنا من جُرمٍ مُعتم إلى آخر مضيء كوجه البدر ، تحمل شيئًا من أرواحنا وأفكارنا في فترة ما من زمننا.
تقول جوليان مور في Still Alice على لسان Alice المصابة بالزهايمر: " من سيأخذنا على محمل الجد عندما نبتعد جدًا عمن كنا عليه، عندما سلوكنا الغريب وجُمَلنا المُتلعثمة تغير من مفاهيمنا بل ومفهومنا عن أنفسنا، أصبحنا تافهين عاجزين وهزيلين، ولكن هذه ليست شخصياتنا بل مرضنا ".
كذلك نحن، من سيأخذنا على محمل الجد عندما نحل أنفسنا من وعود أمنياتنا البريئة البسيطة التي تمثل حقيقتنا قبل أن نصاب بعدوى التميز، تلك الأمنيات التي ترسم شيئا من ملامح قلوبنا عندما كانت رحبة لتسع الكون بكواكبه ومجراته، أمنياتنا التي تعتقت مع الوقت، حتى أصبحت كأحجارٍ كريمة وحدنا فقط نُدرك قيمتها، وبفضلها أصبحنا مختلفين ونادرين ، لا يهم أن نحققها ، لكننا بحاجة ماسة إلى هالتها، لتُحيط بنا، تحفنا وتهدينا إلى شخصياتنا الحقيقية، الملونه بألوان العُمر ...منذ عهد الأجنّة إلى أن تظهر خطوط الضحك والأحزان !
والآن ...
هل تذكرون الوقت الذي كان طويلا إلى حين ظهور نتيجة الإمتحان، حتى أصبح اليوم قصيرًا ولم تعد أربع وعشرون ساعه تكفينا لصنع بهجة صغيرة، بعد أن حشرنا أعين الآخرين في قلوبنا وكل قلب لا يتسع إلا لزوج عيون تحرسان العطر الذي يخلقه إيماننا بالله من أن ينسكب.
وعندما لا يبق من وقتنا الكثير ستُطوى صفحة الأمنيات ، لكن حياتنا ستكون قد عيشت على النحو الذي رسمناه بفرشاة أمنياتنا مهما كنا عاجزين عن تحقيقها، أو مهما كنا أقوياء وناجحين في تجسيدها، فسنكون قد عشنا العذاب والسعادة، وسنؤول إلى معنى الجمال الذي يمثله وجود الإنسان في أي مكان وفي جميع الأزمنة، سنكون قد قطعنا الرحلة وهبطنا في استراحتنا الأخيرة حاملين مظلات الأمل نرقب حدثًا غامضًا مبهجًا مستحيلًا وبسيطًا كوقفة عصفور على غصن.

أما تلك الخطوط التي تتبدى مع الأيام فوق أجفاننا، فليست مجرد عروق، بل خارطة طريق لأمنيات إنسان، يغمض عينيه كلما تمنى، لينبت ألف عرق، ألف بستان، فقد كان يومًا ما يتمنى.